سورة النساء - تفسير تفسير النسفي

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (النساء)


        


{يَا أَيُّهَا الناس} يا بني آدم {اتقوا رَبَّكُمُ الذى خَلَقَكُمْ مّن نَّفْسٍ واحدة} فرعكم من أصل واحد وهو نفس آدم أبيكم {وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا} معطوف على محذوف كأنه قيل: من نفس واحدة أنشأها وخلق منها زوجها، والمعنى شعبكم من نفس واحدة هذه صفتها وهي أنه أنشأها من تراب وخلق منها زوجها حواء من ضلع من أضلاعه {وَبَثَّ مِنْهُمَا} ونشر من آدم وحواء {رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاء} كثيرة أي وبث منهما نوعي جنس الإنس وهما الذكور والإناث، فوصفها بصفة هي بيان وتفصيل لكيفية خلقهم منها، أو على خلقكم والخطاب في {يا أيها الناس} للذين بعث إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، والمعنى خلقكم من نفس آدم وخلق منها أمكم حواء وبث منهما رجالاً كثيراً ونساء غيركم من الأمم الفائتة للحصر. فإن قلت: الذي تقتضيه جزالة النظم أن يجاء عقيب الأمر بالتقوى بما يعدو إليها، فكيف كان خلقه إياهم من نفس واحدة على التفصيل الذي ذكره داعياً إليها؟ قلت: لأن ذلك مما يدل على القدرة العظيمة، ومن قدر على نحوه كان قادراً على كل شيء، ومن المقدورات عقاب الكفار والفجار فالنظر فيه يؤدي إلى أن يتقي القادر عليه ويخشى عقابه، ولأنه يدل على النعمة السابغة عليهم فحقهم أن يتقوه في كفرانها. قال عليه السلام عند نزول الآية: «خلقت المرأة من الرجل فهمّها في الرجل وخلق الرجل من التراب فهمّه في التراب» {واتقوا الله الذى تَسَاءلُونَ بِهِ} والأصل {تتساءلون} فأدغمت التاء في السين بعد إبدالها سيناً لقرب التاء من السين للهمس. {تساءلون به} بالتخفيف: كوفي على حذف التاء الثانية استثقالاً لاجتماع التاءين أي يسأل بعضكم بعضاً بالله وبالرحم فيقول بالله وبالرحم: افعل كذا على سبيل الاستعطاف {والأرحام} بالنصب على أنه معطوف على اسم الله تعالى أي واتقوا الأرحام أن تقطعوها، أو على موضع الجار والمجرور كقولك (مررت بزيد وعمراً)، وبالجر: حمزة على عطف الظاهر على الضمير وهو ضعيف، لأن الضمير المتصل كاسمه متصل والجار والمجرور كشيء واحد فأشبه العطف على بعض الكلمة {إِنَّ الله كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً} حافظاً أو عالماً.
{وَءاتُواْ اليتامى أموالهم} يعني الذين ماتت آباؤهم فانفردوا عنهم. واليتم: الانفراد ومنه الدرة اليتيمة، وقيل: اليتم في الأناسي من قبل الآباء، وفي البهائم من قبل الأمهات، وحق هذا الاسم أن يقع على الصغار والكبار لبقاء معنى الانفراد عن الآباء إلا أنه قد غلب أن يسموا به قبل أن يبلغوا مبلغ الرجال، فإذا استغنوا بأنفسهم عن كافل وقائم عليهم زال هذا الاسم عنهم.
وقوله عليه السلام: «لا يتم بعد الحلم» تعليم شريعة لا لغة يعني أنه إذا احتلم لم تجر عليه أحكام الصغار. والمعنى وآتوا اليتامى أموالهم بعد البلوغ، وسماهم يتامى لقرب عهدهم إذا بلغوا بالصغر، وفيه إشارة إلى أن لا يؤخر دفع أموالهم إليهم عن حد البلوغ أن أونس منهم الرشد، وأن يؤتوها قبل أن يزول عنهم اسم اليتامى والصغار {وَلاَ تَتَبَدَّلُواْ الخبيث بالطيب} ولا تستبدلوا الحرام وهو مال اليتامى بالحلال وهو مالكم، أو لا تستبدلوا الأمر الخبيث وهو اختزال أموال اليتامى بالأمر الطيب وهو حفظها والتورع عنها. والتفعل بمعنى الاستفعال غير عزيز ومنه التعجل بمعنى الاستعجال {وَلاَ تَأْكُلُواْ أموالهم إلى أموالكم} {إلى} متعلقة بمحذوف وهي في موضع الحال أي مضافة إلى أموالكم. والمعنى ولا تضموها إليها في الإنفاق حتى لا تفرقوا بين أموالكم وأموالهم قلة مبالاة بما لا يحل لكم وتسوية بينه وبين الحلال {إنّهُ} إن أكلها {كَانَ حُوباً كَبِيراً} ذنباً عظيماً {وَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُواْ} أي لا تعدلوا. أقسط أي عدل {فِى اليتامى} يقال للإناث اليتامى كما يقال للذكور وهو جمع يتيمة ويتيم، وأما أيتام فجمع يتيم لا غير {فانكحوا مَا طَابَ لَكُمْ} ما حل لكم {مّنَ النساء} لأن منهن ماحرم الله كاللاتي في آية التحريم. وقيل: {ما} ذهاباً إلى الصفة لأن ما يجيء في صفات من يعقل فكأنه قيل: الطيبات من النساء، ولأن الإناث من العقلاء يجرين مجرى غير العقلاء ومنه قوله تعالى: {وَمَا مَلَكَتْ أيمانكم} قيل: كانوا لا يتحرجون من الزنا ويتحرجون من ولاية اليتامى فقيل: إن خفتم الجور في حق اليتامى فخافوا الزنا فانكحوا ما حل لكم من النساء ولا تحوموا حول المحرمات، أو كانوا يتحرجون من الولاية في أموال اليتامى ولا يتحرجون من الاستكثار من النساء مع أن الجور يقع بينهن إذا كثرن فكأنه قيل: إذا تحرجتم من هذا فتحرجوا من ذلك. وقيل: وإن خفتم أن لا تقسطوا في نكاح اليتامى فانكحوا من البالغات. يقال طابت الثمرة أي أدركت {مثنى وثلاث وَرُبَاعَ} نكرات. وإنما منعت الصرف للعدل والوصف، وعليه دل كلام سيبويه ومحلهن النصب على الحال {من النساء} أو {مما طاب} تقديره: فانكحوا الطيبات لكم معدودات هذا العدد ثنتين ثنتين وثلاثاً وثلاثاً وأربعاً أربعاً. فإن قلت: الذي أطلق للناكح في الجمع أن يجمع بين اثنتين أو ثلاث أو أربع، فما معنى التكرير في مثنى وثلاث ورباع؟ قلت: الخطاب للجميع فوجب التكرير ليصيب كل ناكح يريد الجمع ما أراد من العدد الذي أطلق له كما تقول للجماعة: اقتسموا هذا المال وهو ألف درهم درهمين درهمين، وثلاثة ثلاثة، وأربعة أربعة، ولو أفردت لم يكن له معنى.
وجيء بالواو لتدل على تجويز الجمع بين الفرق، ولو جيء ب {أو} مكانها لذهب معنى التجويز {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُواْ} بين هذه الأعداد {فواحدة} فالزموا أو فاختاروا واحدة {أَوْ مَا مَلَكَتْ أيمانكم} سوّى في اليسر بين الحرة الواحدة وبين الإماء من غير حصر {ذلك} إشارة إلى اختيار الواحدة والتسري {أدنى أَلاَّ تَعُولُواْ} أقرب من أن لا تميلوا ولا تجوروا، يقال عال الميزان عولاً إذا مال، وعال الحاكم في حكمه إذا جار. ويحكى عن الشافعي رحمه الله أنه فسر {أن لا تعولوا} أن لا تكثر عيالكم واعترضوا عليه بأنه يقال: أعال يعيل إذا كثر عياله. وأجيب بأن يجعل من قولك (عال الرجل عياله يعولهم) كقولك (مانهم يمونهم) إذا أنفق عليهم لأن من كثر عياله لزمه أن يعولهم، وفي ذلك ما يصعب عليه المحافظة على حدود الورع وكسب الحلال. وكلام مثله من أعلام العلم حقيق بالحمل على السداد وأن لا يظن به تحريف تعيلوا إلى تعولوا كأنه سلك في تفسير هذه الكلمة طريقة الكنايات {وَءاتُواْ النساء صدقاتهن} مهورهن {نِحْلَةً} من نحله كذا إذا أعطاه إياه ووهبه له عن طيبة من نفسه نحلة ونحلاً، وانتصابها على المصدر لأن النحلة والإيتاء بمعنى الإعطاء فكأنه قال: وانحلوا النساء صدقاتهن نحلة أي أعطوهن مهورهن عن طيبة أنفسكم، أو على الحال من المخاطبين أي آتوهن صدقاتهن ناحلين طيبي النفوس بالإعطاء، أو من الصدقات أي منحولة معطاة عن طيبة الأنفس. وقيل: نحلة من الله تعالى عطية من عنده وتفضلاً منه عليهن. وقيل: النحلة الملة وفلان ينتحل كذا أي يدين به يعني وآتوهن مهورهن ديانة على أنها مفعول لها. والخطاب للأزواج، وقيل للأولياء لأنهم كانوا يأخذون مهور بناتهم {فَإِن طِبْنَ لَكُمْ} للأزواج {عَن شَئ مّنْهُ} أي من الصداق إذ هو في معنى الصدقات {نَفْساً} تمييز وتوحيدها لأن الغرض بيان الجنس والواحد يدل عليه، والمعنى فإن وهبن لكم شيئاً من الصدقات وتجافت عنه نفوسهن طيبات غير مخبثات بما يضطرهن إلى الهبة من شكاسة أخلاقهم وسوء معاشرتكم. وفي الآية دليل على ضيق المسلك في ذلك ووجوب الاحتياط حيث بنى الشرط على طيب النفس فقيل {فإن طبن لكم عن شيء منه نفساً} ولم يقل (فإن وهبن لكم) إعلاماً بأن المراعي هو تجافي نفسها عن الموهوب طيبة {فَكُلُوهُ} الهاء يعود على {شيء} {هَنِيئَاً} لا إثم فيه {مَّرِيئاً} لا داء فيه، فسرهما النبي عليه السلام أو هنيئاً في الدنيا بلا مطالبة، مريئاً في العقبى بلا تبعة، وهما صفتان من هنؤ الطعام ومرؤ إذا كان سائغاً لا تنغيص فيه، وهما وصف مصدر أي أكلاً هنيئاً مريئاً، أو حال من الضمير أي كلوه وهو هنيء مريء، وهذه عبارة عن المبالغة في الإباحة وإزالة التبعة. هنياً مرياً بغير همز: يزيد، وكذا حمزة في الوقف، وهمزهما الباقون. وعن علي رضي الله عنه: إذا اشتكى أحدكم شيئاً فليسأل امرأته ثلاثة دراهم من صداقها ثم ليشتر بها عسلاً فليشربه بماء السماء فيجمع الله له هنيئاً ومريئاً وشفاء ومباركاً.


{وَلاَ تُؤْتُواْ السفهاء} المبذرين أموالهم الذين ينفقونها فيما لا ينبغي ولا قدرة لهم على إصلاحها وتثميرها والتصرف فيها، والخطاب للأولياء. وأضاف إلى الأولياء أموال السفهاء بقوله {أموالكم} لأنهم يلونها ويمسكونها {التي جَعَلَ الله لَكُمْ قياما} أي قواماً لأبدانكم ومعاشاً لأهلكم وأولادكم. قيما بمعنى قياماً: نافع وشامي كما جاء {عوذا} بمعنى (عياذا). وأصل قيام قوام فجعلت الواو ياء لانكسار ما قبلها، وكان السلف يقولون: المال سلاح المؤمن، ولأن أترك مالاً يحاسبني الله عليه خير من أن أحتاج إلى الناس، وعن سفيان وكان له بضاعة يقلبها لولاها لتمندل بي بنو العباس {وارزقوهم فِيهَا} واجعلوها مكاناً لرزقهم بأن تتجروا فيها وتربحوا حتى تكون نفقتهم من الأرباح لا من صلب المال فيأكلها الإنفاق {واكسوهم وَقُولُواْ لَهُمْ قَوْلاً مَّعْرُوفاً} قال ابن جريج: عدة جميلة إن صلحتم ورشدتم سلمنا إليكم أموالكم، وكل ما سكنت إليه النفس لحسنه عقلاً أو شرعاً من قول أو عمل فهو معروف، وما أنكرته لقبحه فهو منكر. {وابتلوا اليتامى} واختبروا عقولهم وذوقوا أحوالهم ومعرفتهم بالتصرف قبل البلوغ، فالابتلاء عندنا أن يدفع إليه ما يتصرف فيه حتى تتبين حاله فيما يجيء منه، وفيه دليل على جواز إذن الصبي العاقل في التجارة {حتى إِذَا بَلَغُواْ النّكَاحَ} أي الحلم لأنه يصلح للنكاح عنده ولطلب ما هو مقصود به وهو التوالد {فَإنْ آنَسْتُم مِّنْهُمْ} تبينتم {رَشَدًا} هداية في التصرفات وصلاحاً في المعاملات {فادفعوا إِلَيْهِمْ أموالهم} من غير تأخير عن حد البلوغ، ونظم هذا الكلام أن ما بعد {حتى} إلى {فادفعوا إِلَيْهِمْ أموالهم} جعل غاية للابتلاء وهي حتى التي تقع بعدها الجمل كالتي في قوله:
حتى ماء دجلة أشكل ***
والواقعة بعدها جملة شرطية لأن {إذا} متضمنة معنى الشرط وفعل الشرط {بلغوا النكاح}وقوله: {فإن آنستم منهم رشداً فادفعوا إليهم أموالهم} جملة من شرط وجزاء واقعة جواباً للشرط الأول الذي هو {إذا بلغوا النكاح}فكأنه قيل: وابتلوا اليتامى إلى وقت بلوغهم واستحقاقهم دفع أموالهم إليهم بشرط إيناس الرشد منهم. وتنكير الرشد يفيد أن المراد رشد مخصوص وهو الرشد في التصرف والتجارة، أو يفيد التقليل أي طرفاً من الرشد حتى لا ينتظر به تمام الرشد وهو دليل لأبي حنيفة رحمه الله في دفع المال عند بلوغ خمس وعشرين سنة. {وَلاَ تَأْكُلُوهَا إِسْرَافاً وَبِدَاراً أَن يَكْبَرُواْ} ولا تأكلوها مسرفين ومبادرين كبرهم ف {إسرافاً} و{بداراً} مصدران في موضع الحال و{أن يكبروا} في موضع المصدر منصوب الموضع ب {بداراً}، ويجوز أن يكونا مفعولاً لهما أي لإسرافكم ومبادرتكم كبرهم تفرطون في إنفاقها وتقولون ننفق فيما نشتهي قبل أن يكبر اليتامى فينتزعوها من أيدينا {وَمَن كَانَ غَنِيّاً فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَن كَانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بالمعروف} قسم الأمر بين أن يكون الوصي غنياً وبين أن يكون فقيراً، فالغني يستعف من أكلها أي يحترز من أكل مال اليتيم، واستعف أبلغ من عف كأنه طالب زيادة العفة والفقير يأكل قوتاً مقدراً محتاطاً في أكله.
عن إبراهيم. ما سد الجوعة ووارى العورة {فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أموالهم فَأَشْهِدُواْ عَلَيْهِمْ} بأنهم تسلموها وقبضوها دفعاً للتجاحد وتفادياً عن توجه اليمين عليكم عند التخاصم والتناكر {وكفى بالله حَسِيباً} محاسباً فعليكم بالتصادق وإياكم والتكاذب، أو هو راجع إلى قوله {فليأكل بالمعروف} أي ولا يسرف فإن الله يحاسبه عليه ويجازيه به. وفاعل{كفى} لفظة {الله} والباء زائدة و{كفى} يتعدى إلى مفعولين دليله {فَسَيَكْفِيكَهُمُ الله} [البقرة: 137].
{لّلرّجَالِ نَصيِبٌ مّمَّا تَرَكَ الوالدان والأقربون وَلِلنّسَاءِ نَصِيبٌ مّمَّا تَرَكَ الوالدان والأقربون} هم المتوارثون من ذوي القرابات دون غيرهم {مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ} بدل {مما ترك} بتكرير العامل والضمير في {منه} يعود إلى ما ترك {نصيباً} نصب على الاختصاص بمعنى أعني نصيباً {مّفروضاً} مقطوعاً لا بد لهم من أن يحوزوه. روي «أن أوس بن ثابت ترك امرأته أم كحة وثلاث بنات فزوى ابنا عمه ميراثه عنهن، وكان أهل الجاهلية لا يورثون النساء والأطفال ويقولون: لا يرث إلا من طاعن بالرماح وحاز الغنيمة. فجاءت أم كحة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فشكت فقال: إرجعي حتى أنظر ما يحدث الله فنزلت الآية، فبعث إليهما لا تفرقا من مال أوس شيئاً فإن الله تعالى قد جعل لهن نصيباً ولم يبين حتى يبين فنزلت يوصيكم الله فأعطى أم كحة الثمن والبنات الثلثين والباقي ابني العم وإذا حضر القسمة أي قسمة التركة أولوا القربى ممن لا يرث واليتامى والمساكين من الأجانب فارزقوهم فأعطوهم مّنه مما ترك الوالدان والأقربون وهو أمر ندب وهو باقٍ لم ينسخ». وقيل: كان واجباً في الابتداء ثم نسخ بآية الميراث مقطوعاً لا بد لهم من أن يجوزوه. روي «أن أوس بن ثابت ترك امرأته أم كحة وثلاث بنات فزوى ابنا عمه ميراثه عنهن، وكان أهل الجاهلية لا يورثون النساء والأطفال ويقولون: لا يرث إلا من طاعن بالرماح وحاز الغنيمة. فجاءت أم كحة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فشكت فقال: إرجعي حتى أنظر ما يحدث الله فنزلت الآية، فبعث إليهما لا تفرقا من مال أوس شيئاً فإن الله تعالى قد جعل لهن نصيباً ولم يبين حتى يبين فنزلت {يوصيكم الله} فأعطى أم كحة الثمن والبنات الثلثين والباقي ابني العم» {وإذا حضر القسمة} أي قسمة التركة {أولوا القربى} ممن لا يرث {واليتامى والمساكين} من الأجانب {فارزقوهم} فأعطوهم {مّنه} مما ترك الوالدان والأقربون وهو أمر ندب وهو باقٍ لم ينسخ.
وقيل: كان واجباً في الابتداء ثم نسخ بآية الميراث {وَقُولُواْ لَهُمْ قَوْلاً مَّعْرُوفاً} عذراً جميلاً وعدة حسنة، وقيل: القول المعروف أن يقولوا لهم: خذوا بارك الله عليكم ويستقلوا ما أعطوهم ولا يمنوا عليهم.
{وَلْيَخْشَ الذين لَوْ تَرَكُواْ مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرّيَّةً ضعافا خَافُواْ عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُواّ الله وَلْيَقُولُواْ قَوْلاً سَدِيداً} المراد بهم الأوصياء أمروا بأن يخشوا الله فيخافوا على من في حجورهم من اليتامى فيشفقوا عليهم خوفهم على ذريتهم لو تركوهم ضعافاً، وأن يقدروا ذلك في أنفسهم ويصوره حتى لا يجسروا على خلاف الشفقة والرحمة. {ولو} مع ما في حيزه صلة ل {الذين} أي وليخش الذين صفتهم وحالهم أنهم لو شارفوا أن يتركوا خلفهم ذرية ضعافاً وذلك عند احتضارهم خافوا عليهم الضياع بعدهم لذهاب كافلهم. وجواب {لو}: {خافوا}، والقول السديد من الأوصياء أن يكلموهم كما يكلمون أولادهم بالأدب الحسن والترحيب ويدعوهم ب يا بني ويا ولدي. {إِنَّ الذين يَأْكُلُونَ أموال اليتامى ظُلْماً} ظالمين فهو مصدر في موضع الحال {إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ} ملء بطونهم {نَارًا} أي يأكلون ما يجر إلى النار فكأنه نار. روي أنه يبعث آكل مال اليتامى يوم القيامة والدخان يخرج من قبره ومن فيه وأنفه وأذنيه فيعرف الناس أنه كان يأكل من مال اليتيم في الدنيا {وَسَيَصْلَوْنَ} {وسَيُصلون} شامي وأبو بكر {سَعِيراً} ناراً من النيران مبهمة الوصف.
{يُوصِيكُمُ الله} يعهد إليكم ويأمركم {فِى أولادكم} في شأن ميراثهم وهذا إجمال تفصيله {لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِ الأنثيين} أي للذكر منهم أي من أولادكم فحذف الراجع إليه لأنه مفهوم كقولهم (السمن منوان بدرهم) وبدأ بحظ الذكر ولم يقل للأنثيين مثل حظ الذكر أو للأنثى نصف حظ الذكر لفضله كما ضوعف حظه لذلك، ولأنهم كانوا يورثون الذكور دون الإناث وهو السبب لورود الآية فقيل: كفى الذكور أن ضوعف لهم نصيب الإناث فلا يتمادى في حظهن حتى يحرمن مع إدلائهن من القرابة بمثل ما يدلون به. والمراد حال الاجتماع أي إذا اجتمع الذكر والأنثيان كان له سهمان كما أن لهما سهمين، وأما في حال الانفراد فالابن يأخذ المال كله، والبنتان تأخذان الثلثين، والدليل عليه أنه أتبعه حكم الانفراد بقوله {فَإِن كُنَّ نِسَاءً} أي فإن كانت الأولاد نساء خلصاً يعني بناتاً ليس معهن ابن {فَوْقَ اثنتين} خبر ثانٍ لكان أو صفة لنساء أي نساء زائدات على اثنتين {فَلَهُنَّ ثُلُثَا مَا تَرَكَ} أي الميت لأن الآية لما كانت في الميراث علم أن التارك هو الميت {وَإِن كَانَتْ واحدة فَلَهَا النصف} أي وإن كانت المولودة منفردةٌ.
{واحدة}: مدني على (كان) التامة والنصب أوفق لقوله {فإن كن نساء}. فإن قلت: قد ذكر حكم البنتين في حال اجتماعهما مع الابن وحكم البنات والبنت في حال الانفراد، ولم يذكر حكم البنتين في حال الانفراد فما حكمهما؟ قلت: حكمهما مختلف فيه؛ فابن عباس رضي الله عنهما نزلهما منزلة الواحدة لا منزلة الجماعة، وغيره من الصحابة رضي الله عنهم أعطوهما حكم الجماعة بمقتضى قوله {لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِ الأنثيين} وذلك لأن من مات وخلف بنتاً وابناً فالثلث للبنت والثلثان للابن، فإذا كان الثلث لبنت واحدة كان الثلثان للبنتين، ولأنه قال في آخر السورة {إِن امرؤ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُهَا إِن لَّمْ يَكُنْ لَّهَا وَلَدٌ فَإِن كَانَتَا اثنتين فَلَهُمَا الثلثان مِمَّا تَرَكَ}. والبنتان أمس رحماً بالميت من الأختين فأوجبوا لهما ما أوجب الله للأختين، ولم ينقصوا حظهما عن حظ من هو أبعد منهما، ولأن البنت لما وجب لها مع أخيها الثلث كان أحرى أن يجب لها الثلث إذا كانت مع أخت مثلها ويكون لأختها معها مثل ما كان يجب لها أيضاً مع أخيها لو انفردت معه فوجب لهما الثلثان. وفي الآية دلالة على أن المال كله للذكر إذا لم يكن معه أنثى، لأنه جعل للذكر مثل حظ الأنثيين، وقد جعل للأنثى النصف إذا كانت منفردة فعلم أن للذكر في حال الانفراد ضعف النصف وهو الكل.
والضمير في {وَلأَبَوَيْهِ} للميت والمراد الأب والأم إلا أنه غلب الذكر {لِكُلِّ واحد مّنْهُمَا السدس} بدل من لأبويه بتكرير العامل وفائدة هذا البدل أنه لو قيل {ولأبويه السدس} لكان ظاهره اشتراكهما فيه، ولو قيل (ولأبويه السدسان) لأوهم قسمة السدسين عليهما على التسوية وعلى خلافها، ولو قيل {ولكل واحد من أبويه السدس} لذهبت فائدة التأكيد وهو التفصيل بعد الإجمال. والسدس مبتدأ خبره لأبويه والبدل متوسط بينهما للبيان، وقرأ الحسن السدس والربع والثمن والثلث بالتخفيف {مِمَّا تَرَكَ إِن كَانَ لَهُ وَلَدٌ} هو يقع على الذكر والأنثى {فَإِن لَّمْ يَكُنْ لَّهُ وَلَدٌ وَوَرِثَهُ أَبَوَاهُ فَلأُِمّهِ الثلث} أي مما ترك والمعنى وورثه أبواه فحسب، لأنه إذا ورثه أبواه مع أحد الزوجين كان للأم ثلث ما يبقى بعد إخراج نصيب الزوج لا ثلث ما ترك، لأن الأب أقوى من الأم في الإرث بدليل أن له ضعف حظها إذا خلصا. فلو ضرب لها الثلث كاملاً لأدى إلى حظ نصيبه عن نصيبها؛ فإن امرأة لو تركت زوجاً وأبوين فصار للزوج النصف وللأم الثلث والباقي للأب، حازت الأم سهمين والأب سهماً واحداً فينقلب الحكم إلى أن يكون للأنثى مثل حظ الذكرين. {فلأمه} بكسر الهمزة: حمزة وعلي لمجاورة كسر اللام {فَإِن كَانَ لَهُ} أي للميت {إِخْوَةٌ فَلأِمِهِ السدس} إذا كان للميت اثنان من الإخوة والأخوات فصاعداً، فلأمه السدس.
والأخ الواحد لا يحجب، والأعيان والعلات والأخياف في حجب الأم سواء {مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ} متعلق بما تقدمه من قسمة المواريث كلها لا بما يليه وحده كأنه قيل: قسمة هذه الأنصباء من بعد وصية {يُوصِى بِهَا} هو وما بعده بفتح الصاد: مكي وشامي وحماد ويحيى وافق الأعشى في الأولى وحفص في الثانية لمجاورة {يورث}، وكسر الأولى لمجاورة {يوصيكم الله}. الباقون: بكسر الصادين أي يوصى بها الميت. {أَوْ دَيْنٍ} والإشكال أن الدّين مقدم على الوصية في الشرع، وقدمت الوصية على الدين في التلاوة. والجواب إن {أو} لا تدل على الترتيب، ألا ترى أنك إذا قلت (جاءني زيد أو عمرو) كان المعنى جاءني أحد الرجلين فكان التقدير في قوله {من بعد وصية يوصى بها} أو دين من بعد أحد هذين الشيئين: الوصية أو الدين. ولو قيل بهذا اللفظ لم يدر فيه الترتيب، بل يجوز تقديم المؤخر وتأخير المقدم كذا هنا. وإنما قدمنا الدين على الوصية بقوله عليه السلام: «ألا إن الدّين قبل الوصية» ولأنها تشبه الميراث من حيث إنها صلة بلا عوض فكان إخراجها مما يشق على الورثة، وكان أداؤها مظنة للتفريط بخلاف الدين فقدمت على الدين ليسارعوا إلى إخراجها مع الدين {ءابَاؤُكُمْ} مبتدأ {وَأَبناؤُكُمْ} عطف عليه والخبر {لاَ تَدْرُونَ} وقوله {أَيُّهُم} مبتدأ خبره {أَقْرَبُ لَكُمْ} والجملة في موضع نصب ب {تدرون} {نَفْعاً} تمييز والمعنى: فرض الله الفرائض على ما هو عنده حكمة، ولو وكل ذلك إليكم لم تعلموا أيهم أنفع لكم فوضعتم أنتم الأموال على غير حكمة، والتفاوت في السهام بتفاوت المنافع وأنتم لا تدرون تفاوتها فتولى الله ذلك فضلاً منه ولم يكلها إلى اجتهادكم لعجزكم عن معرفة المقادير. وهذه الجملة اعتراضية مؤكدة لا موضع لها من الإعراب {فَرِيضَةً} نصبت نصب المصدر المؤكد أي فرض ذلك فرضاً {مّنَ الله إِنَّ الله كَانَ عَلِيماً} بالأشياء قبل خلقها {حَكِيماً} في كل ما فرض وقسم من المواريث وغيرها.


{وَلَكُمْ نِصْفُ مَا تَرَكَ أزواجكم} أي زوجاتكم {إِنْ لَّمْ يَكُنْ لَّهُنَّ وَلَدٌ} أي ابن أو بنت {فَإِن كَانَ لَهُنَّ وَلَدٌ} منكم أو من غيركم {فَلَكُمُ الربع مِمَّا تَرَكْنَ مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ وَلَهُنَّ الربع مِمَّا تَرَكْتُمْ إِن لَّمْ يَكُنْ لَّكُمْ وَلَدٌ فَإِن كَانَ لَكُم وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثمن مِمَّا تَرَكْتُم مِّن بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِهَا أَوْ دَيْنٍ ْ} والواحد والجماعة سواء في الربع والثمن، جعل ميراث الزوج ضعف ميراث الزوجة لدلالة قوله: {للذكر مثل حظ الأُنثيين}. {وَإِن كَانَ رَجُلٌ} يعني للميت وهو اسم {كان} {يُورَثُ} من ورث أي يورث منه وهو صفة ل {رجل} {كلالة} خبر {كان} أي وإن كان رجل موروث منه كلالة أو يورث خبر {كان} وكلالة حال من الضمير في يورث. والكلالة تطلق على من لم يخلف ولداً ولا ولداً وعلى من ليس بولد ولا والد من المخلفين، وهو في الأصل مصدر بمعنى الكلال وهو ذهاب القوة من الإعياء {أَو امرأة} عطف على رجل {وَلَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ} أي لأم فإن قلت: قد تقدم ذكر الرجل والمرأة فلم أفرد الضمير وذكره؟ قلت: أما إفراده فلأن {أو}ئ لأحد الشيئين، وأما تذكيره فلأنه يرجع إلى رجل لأنه مذكر مبدوء به، أو يرجع إلى أحدهما وهو مذكر {فَلِكُلِّ واحد مّنْهُمَا السدس فَإِن كَانُواْ أَكْثَرَ مِن ذلك} من واحد {فَهُمْ شُرَكَاءُ فِي الثلث} لأنهم يستحقون بقرابة الأم وهي لا ترث أكثر من الثلث ولهذا لا يفضل الذكر منهم على الأنثى {مِن بَعْدِ وَصِيَّةٍ يوصى بِهَا أَوْ دَيْنٍ} إنما كررت الوصية لاختلاف الموصين، فالأول الوالدان والأولاد، والثاني الزوجة، والثالث الزوج، والرابع الكلالة. {غَيْرَ مُضَارٍّ} حال أي يوصي بها وهو غير مضار لورثته وذلك بأن يوصي بزيادة على الثلث أو لوارث {وَصِيَّةً مّنَ الله} مصدر مؤكد أي يوصيكم بذلك وصية {والله عَلِيمٌ} بمن جار أو عدل في وصيته {حَلِيمٌ} على الجائر لا يعاجله بالعقوبة وهذا وعيد. فإن قلت: فأين ذو الحال فيمن قرأ {يوصي بها}؟ قلت: يضمر {يوصي} فينتصب عن فاعله لأنه لما قيل {يوصي بها} علم أن ثمّ موصياً كما كان {رِجَالٌ} فاعل ما يدل عليه {يُسَبّحُ}) النور: 36) لأنه لما قيل {يُسَبّحُ لَهُ} علم أن ثم مسبحاً فأضمر {يسبح}.
واعلم أن الورثة أصناف أصحاب الفرائض وهم الذين لهم سهام مقدرة كالبنت ولها النصف، وللأكثر الثلثان، وبنت الابن وإن سفلت وهي عند عدم الولد كالبنت ولها مع البنت الصلبية السدس، وتسقط بالابن وبنتي الصلب إلا أن يكون معها أو أسفل منها غلام فيعصبها، والأخوات لأب وأم وهن عند عدم الولد وولد الابن كالبنات والأخوات لأب، وهن كالأخوات لأب وأم عند عدمهن، ويصير الفريقان عصبة مع البنت أو بنت الابن، ويسقطن بالابن وابنه وإن سفل، والأب وبالجد عند أبي حنيفة رحمه الله وولد الأم فللواحد السدس وللأكثر الثلث، وذكرهم كأنثاهم ويسقطون بالولد وولد الابن وإن سفل والأب والجد.
والأب وله السدس مع الابن أو ابن الابن وإن سفل، ومع البنت أو بنت الابن وإن سفلت السدس والباقي. والجد وهو أبو الأب وهو كالأب عند عدمه إلا في رد الأم إلى ثلث ما يبقى، والأم ولها السدس مع الولد أو ولد الابن وإن سفل، أو الاثنين من الإخوة والأخوات فصاعداً من أي جهة كانا، وثلث الكل عند عدمهم وثلث ما يبقى بعد فرض أحد الزوجين في زوج وأبوين أو زوجة وأبوين. والجدة ولها السدس وإن كثرت لأم كانت أو لأب، والبعدى تحجب بالقربى، والكل بالأم والأبويات بالأب، والزوج وله الربع مع الولد أو ولد الابن وإن سفل، وعند عدمه النصف. والزوجة ولها الثمن مع الولد أو ولد الابن وإن سفل وعند عدمه الربع. والعصبات وهم الذين يرثون ما بقي من الفرض وأولاهم. الابن ثم ابنه وإن سفل، ثم الأب ثم أبوه وإن علا، ثم الأخ لأب وأم، ثم الأخ لأب، ثم ابن الأخ لأب وأم، ثم ابن الأخ لأب، ثم الأعمام، ثم أعمام الأب، ثم أعمام الجد، ثم المعتق، ثم عصبته على الترتيب. واللاتي فرضهن النصف والثلثان يصرن عصبة بأخواتهن لا غيرهن. وذوو الأرحام وهم الأقارب الذين ليسوا من العصبات ولا من أصحاب الفرائض وترتيبهم كترتيب العصبات.
{تِلْكَ} إشارة إلى الأحكام التي ذكرت في باب اليتامى والوصايا والمواريث {حُدُودُ الله} سماها حدوداً لأن الشرائع كالحدود المضروبة للمكلفين لا يجوز لهم أن يتجاوزها {وَمَن يُطِعِ الله وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جنات تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأنهر خالدين فِيهَا وذلك الفوز العظيم * وَمَن يَعْصِ الله وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَاراً خالدا فِيهَا} انتصب {خالدين} و{خالداً} على الحال، وجمع مرة وأفرد أخرى نظراً إلى معنى {من} ولفظها. {ندخله} فيهما: مدني وشامي {وَلَهُ عَذَابٌ مُّهِينٌ} لهوانه عند الله. ولا تعلق للمعتزلة بالآية فإنها في حق الكفار إذ الكافر هو الذي تعدى الحدود كلها، وأما المؤمن العاصي فهو مطيع بالإيمان غير متعدٍ حد التوحيد ولهذا فسر الضحاك المعصية هنا بالشرك. وقال الكلبي: ومن يعص الله ورسوله بكفره بقسمة المواريث ويتعد حدوده استحلالاً ثم خاطب الحكام فقال:
{واللفاتى} هي جمع {التي} وموضعها رفع بالابتداء {يَأْتِينَ الفاحشة} أي الزنا لزيادتها في القبح على كثير من القبائح. يقال أتى الفاحشة وجاءها ورهقها وغشيها بمعنى {مِّن نِّسَائِكُمُ} {من} للتبعيض والخبر {فاستشهدوا عَلَيْهِنَّ} فاطلبوا الشهادة {أَرْبَعةً مّنْكُمْ} من المؤمنين {فَإِن شَهِدُواْ} بالزنا {فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي البيوت} فاحبسوهن {حتى يَتَوَفَّاهُنَّ الموت} أي ملائكة الموت كقوله: {الذين تتوفاهم الملائكة} [النحل: 28] أو حتى يأخذهن الموت ويستوفي أرواحهن {أَوْ يَجْعَلَ الله لَهُنَّ} قيل {أو} بمعنى {إلا أن} {سَبِيلاً} غير هذه. عن ابن عباس رضي الله عنهما: السبيل للبكر جلد مائة وتغريب عام وللثيب الرجم لقوله عليه السلام: «خذوا عني، خذوا عني قد جعل الله لهن سبيلاً البكر بالبكر جلد مائة وتغريب عام والثيب بالثيب جلد مائة ورجم بالحجارة» {والّذان} يريد الزاني والزانية. وبتشديد النون: مكي {يأتيانها مِنكُمْ} أي الفاحشة {فَئَاذُوهُمَا} بالتوبيخ والتعيير وقولوا لهما أما استحييتما أما خفتما الله {فَإِن تَابَا} عن الفاحشة {وَأَصْلَحَا} وغير الحال {فَأَعْرِضُواْ عَنْهُمَا} فاقطعوا التوبيخ والمذمة {إِنَّ الله كَانَ تَوَّاباً رَّحِيماً} يقبل توبة التائب ويرحمه. قال الحسن: أول ما نزل من حد الزنا الأذى ثم الحبس ثم الجلد أو الرجم، فكان ترتيب النزول على خلاف ترتيب التلاوة. والحاصل أنهما إذا كانا محصنين فحدهما الرجم لا غير، وإذا كانا غير محصنين فحدهما الجلد لا غير، وإن كان أحدهما محصناً والآخر غير محصن فعلى المحصن منهما الرجم وعلى الآخر الجلد، وقال ابن بحر: الآية الأولى في السحّاقات، والثانية في اللواطين، والتي في سورة النور في الزاني والزانية وهو دليل ظاهر لأبي حنيفة رحمه الله في أنه يعزر في اللواطة ولا يحد. وقال مجاهد: آية الأذى في اللواطة {إِنَّمَا التوبة} هي من تاب الله عليه إذا قبل توبته أي إنما قبولها {عَلَى الله} وليس المراد به الوجوب إذ لا يجب على الله شيء ولكنه تأكيد للوعد يعني أنه يكون لا محالة كالواجب الذي لا يترك {لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السوء} الذنب لسوء عقابه {بِجَهَالَةٍ} في موضع الحال أي يعملون السوء جاهلين سفهاء لأن ارتكاب القبيح مما يدعو إليه السفه. وعن مجاهد: من عصى الله فهو جاهل حتى ينزع عن جهالته. وقيل: جهالته اختياره اللذة الفانية على الباقية. وقيل: لم يجهل أنه ذنب ولكنه جهل كنه عقوبته. {ثُمَّ يَتُوبُونَ مِن قَرِيبٍ} من زمان قريب وهو ما قبل حضرة الموت ألا ترى إلى قوله: {حتى إذا حضر أحدهم الموت}. فبين أن وقت الاحتضار هو الوقت الذي لا تقبل فيه التوبة. وعن الضحاك: كل توبة قبل الموت فهو قريب. وعن ابن عباس رضي الله عنهما: قبل أن ينظر إلى ملك الموت. وعنه صلى الله عليه وسلم: «إن الله تعالى يقبل توبة العبد ما لم يغرغر» و{من} للتبعيض أي يتوبون بعض زمان قريب كأنه سمى ما بين وجود المعصية وبين حضرة الموت زماناً قريباً {فأولئك يَتُوبُ الله عَلَيْهِمْ} عدة بأنه يفي بذلك وإعلام بأن الغفران كائن لا محالة {وَكَانَ الله عَلِيماً} بعزمهم على التوبة {حَكِيماً} حكم بكون الندم توبة.

1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7